mercredi 18 novembre 2009

حوار حصري اجريته مع هشام بهلول

اعتبر هشام بهلول من جيل الممثلين المغاربة الشباب حيث تحسس طريقه الى الوسط الفني وهو في سن الشباب و ميزال شارك في العديد من التجارب المغربية و العربية الرائدة منها عمل هولكو رفقة الممثل السوري ايمن زيدان و نخبة من المبدعين العرب في العمل الذي اعتبر في حينها الأضخم من حيث الأنتاج هشان ايضا شارك و ابدع في العديد من الأعمال المغربية الرائعة و اخرها فيلم بعنوان المشاوش فيما يلي نقدم لكم نبذة عن حياة هذا الممشل المغربي الشاب كما يحكيها هو عن نفسه في حوار اجريته معه في المركب الثقافي مولاي رشيد في مدينة بوزنيقة.

أنت من جيل الفنانين الشباب, ما هي نظرتك للحقل الفني؟

أعتقد أن الحقل الفني المغربي عرف تطورا على المستوى المسرحي والسينمائي والتلفزيوني، وهذا جاء في إطار الترويج الذي تقوم به وزارة الثقافة للعديد من الأعمال, وأيضا, دعم دفتر التحملات للقناتين الأولى والثانية, والذي يفرض عليهما إنجاز عدد معين من الأعمال ودعمهم، أما في ما يخص السينما فهو مقرر, سنويا, إنتاج 15 عملا وفي بعض الأحيان يتعدى العدد إلى 17 فيلما وهو ليس بالعدد السهل في السينما المغربية. ولا ننسى التنوع الكبير للمواضيع, التي تفتح المجالات أمام مخيلات كتاب السيناريو، هذا كله يأتي في إطار الحرية التي نعيشها الآن.

- هل أصبح الفن المغربي يتيح فرصا أحسن وأوفر بالنسبة لكم بخلاف الجيل القديم؟

بطبيعة الحال, فكثرة الأعمال تحتاج إلى طاقات بشرية سواء في شقيه الفني أو التقني، لذلك أصبح المجال مفتوحا أمامنا وأمام جيل آخر جديد يتوفر على الكفاءة، وهذا ما نلاحظه الآن في الأعمال المغربية، فهناك وجوه متجددة باستمرار، وبما أن هناك تجديد لابد أن يكون هناك وفاء لرواد الفن المغربي، ليس الوفاء من أجل الوفاء فقط، وإنما إشراكهم كفاعلين في السيناريوهات التي تكتب، ليعكس السيناريو المجتمع بكل فئاته.

- من اكتشف هشام بهلول؟

هذا السؤال يرجع بي إلى أيام الثانوية، رغم أن الشرارة الأولى برزت عندما كنت في الابتدائي, حيث كنت أشارك في مسرحيات الحفلات المدرسية والأعياد الوطنية، لترديد أغان ملتزمة لمارسيل خليفة. بعد انتقالي للثانوي انضممت إلى فرقة الثانوية، فشاركت في مسرحيات عديدة عبر أدوار مختلفة، فنلت آنذاك جائزة أحسن ممثل عن مسرحية "أطفال الباسوس" في إقصائيات إقليم الجديدة، التي شاركنا بها في المهرجان المدرسي الأول للمسرح بمدينة تازة. لكن احترافي جاء بفضل الفنان محمد التسولي، الذي اقترح علي المشاركة في مسلسل "ذئاب في دائرة" بعد اتفاق مع مخرج المسلسل شكيب بن عمر.

- هل أنت من إقليم الجديدة؟

لا، أنا من مواليد حد السوالم, لما بلغت سن الثالثة, انتقلت رفقة عائلتي للعيش بمدينة الدار البيضاء، أما الجديدة, فقد درست فيها في مرحلة الثانوي، صراحة أنا أعتبر نفسي متعدد الانتماءات.

- هل هناك تواصل بينكم وبين الجيل القديم، لأخذ النصائح وتبادل الأفكار؟

نحن نفتقد لجلسات التواصل بيننا وبين الجيل القديم، ليس أنانية من البعض، لكن بسبب عدم توفر أماكن للالتقاء. اللقاء بهم عادة ما يكون في مناسبات معينة, مثل عرض سينمائي أو افتتاح مسرحي أو التصوير، خلال هذه المناسبات يكون هناك تبادل للحديث والأفكار، وتحس من خلال كلامهم وملاحظاتهم بأنهم راضون عما نقدمه وفخورين بأعمالنا.

- من هو قدوتك من بين الفنانين المغاربة والعرب؟

صراحة, أنا دائما, أحتاط من الإجابة عن هذا السؤال, لأنه يدخلني في متاهات، أنا أقدر الجميع، في حين لو حاولت اختيار شخصية معينة سأخلق بعض المشاكل مع شخصيات أخرى، لذلك فإن الذين أحبهم وأقدرهم يعرفون أنفسهم ويعرفون مقدار حبي وإعجابي بهم.

- ماذا استفدت من المشاركة في الأعمال الدرامية العربية، خاصة السورية؟

حظيت باحترام وفخر كبيرين من طرف الجمهور المغربي، وأول شيء أنني انتقلت من مرحلة المتفرج إلى مرحلة المشاركة في هذه الأعمال التي كنت معجبا بها، والأعمال السورية في رأيي تملك حاليا السيادة عن جدارة واستحقاق ودون منازع، وقد أضافت إلى رصيدي عملا ضخما, وأدائي تحسن بوجودي مع أساتذة كبار، وأكيد أنني أيضا أضفت شيئا لهذا العمل، أي أن الأمر كان أخذ وعطاء. هذه الأعمال ساهمت, أيضا, في انتشاري على المستوى العربي، حيث عرضت علي مجموعة من الأعمال بعد مسلسل "هولاكو" وقمت برفضها.

- لماذا قمت برفض تلك الأعمال في حين أنها هي الأخرى كانت ستكون لها إضافة نوعية على رصيدك الفني؟

صحيح، لقد قمت برفض تلك الأعمال، وكان من بينها مسلسل "ربيع قرطبة"، لأن الدور لم يشبع طموحاتي، سيما أنني خرجت من تجربة مسلسل "هولاكو", الذي حظيت فيه بدور كان مؤثرا جدا في أحداث القصة, لذلك رفضت الدور بلباقة، لكن لحد الآن أنا أتأسف لرفضي هذا، الذي منعني من الاشتغال تحت تصرف المخرج الكبير حاتم علي.

- هل يمكن اعتبار المشاركة في الأعمال العربية بابا للانفتاح على الشهرة والنجومية؟

لا، فأنا ولجت الساحة العربية بعد الشهرة, التي حظيت بها في بلدي المغرب، لقد قدمت أعمالا نالت إعجاب الجمهور المغربي، وجعلت لي صدى لدى المخرجين العرب, الذين وضعوا ثقتهم في قدراتي, وأتمنى أنني لم ولن أخيب ظنهم في.

- ماذا يمكنك أن تقول عن "بحيرتان من دموع"؟

"بحيرتان من دموع" كانت تجربة صعبة بالنسبة لي، من حيث التصوير, الذي امتد إلى أكثر من سنة ونصف، لأسباب مالية، وتكمن الصعوبة, أيضا, في طبيعة الدور, الذي جسدته والذي كان يتطلب مني مجهودا كبيرا، فالتمثيل ليس بالأمر السهل، سيما أنني أؤدي دور شخص عصبي جدا.
- هل أنت عصبي بطبيعتك؟

في بعض الأحيان، فأنا عربي مسلم وأعتز بذلك، لا أعتبر نفسي إنسانا متفتحا لدرجة الانحلال، لذلك لا أقبل بأشياء دخيلة على الثقافة المغربية، وأحترم ديانتي وحدود الانفتاح، لكن أرى بأن طريقة معالجة المشاكل, والوقائع يجب أن تختلف، بحيث يجب التروي والالتزام، هذا ما طرحه فيلم "بحيرتان من دموع"، يجب التواصل، يجب الرجوع إلى الأسرة لحل المشاكل "فخير الخطائين التوايون" والكمال لله وحده، ففي لحظات ننسى هذا كله ونخرج بنتائج لا تحمد عقباها، لذلك يجب أن ننصت لبعضنا البعض لحل مشاكلنا.

- هل هشام بهلول "قشابتو واسعة"؟

لا، ماشي بزاف، قشابتي واسعة لكن بالقياس، كما يقال: "لكل مقام مقال" أحب الضحك لكن في حدود ألا يمس أحد كبريائي بسوء.

- ما هي الأدوار التي تطمح إلى تجسيدها؟

أطمح إلى تجسيد كل الأدوار التي لم أجسدها بعد، لكني دائما أحلم بتجسيد دور المعاق، وأتيحت لي الفرصة في مسلسل "الأبرياء", الذي جسدت فيه دور "صلاح" المقعد، وسبق لي أيضا تجسيد دور "بروك" في مسلسل "هولاكو" بحيث سأفقد بصري داخل أحداث المسلسل، في تلك أحسست بنعم الله التي وهبنا إياها. أظن بأنني أتقنت تجسيدها، لقد كان للاهتمام الكبير, الذي أولاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس لفئة المعاقين المهمشين دورا لأحلم بتجسيد أدوار المعاق.

- هل أشبعت حلمك في تجسيد دور المعاق من خلال شخصيتي "صلاح" المقعد في مسلسل "الأبرياء" و"بروك" في مسلسل "هولاكو"؟

لا، فمازلت أطمح إلى تجسيد دور المعاق ذهنيا، والشخص المجنون، فهما شخصيتان تثيرني بشكل كبير، وأتمنى أن تقدم لي أدوار كهذه في المستقبل، للإشارة فقد سبق أن جسدت دور ازدواجية الشخصية، في الفيلم التلفزيوني "الوريث" لمخرجه سعيد بن تاشفين، الذي حاز جائزة الجامور كأحسن فيلم تلفزيوني.

- هل هشام بهلول شخص يحب الرياضة؟

بطبيعة الحال, لقد كنت حريصا على مزاولتها باستمرار، إذ انتسبت لنادي وداد في فرق كرة السلة, وكرة اليد ولكرة الطائرة، ويمكن القول إنني قمت بتجربة مختلف الرياضات, فقط, من أجل المعرفة بها، لكن حين التحاقي بالجامعة لم تسنح لي الفرصة بمزاولتها، التحقت بنادي الدفاع الحسني الجديدي لمزاولة التمارين, لكن وقت التدريبات كان موازيا لوقت الدراسة, فانقطعت عن الرياضة، لكن أنا الآن حريص على مزاولتها بين الفينة والأخرى

مهجة قلبي.مدينتي فاس

من بعيد، من فوق التلال والمرتفعات المطلة عليها، تبدو فاس مدينة فاتنة مستلقية تحت الشمس، تغري الناظر إليها ببناياتها المتقاربة، وقبابها المكسوة بالقرميد الأخضر، ومساجدها المشرئبة بمآذنها، وأبراجها الشامخة، وحدائقها وبساتينها الفيحاء، وأسوارها، وسط هالة من الجمال المنبثق كالضوء من عمق هذه الحاضرة التي تحضن تراثا كونيا وإنسانيا كبيرا يجب الحفاظ عليه بشهادة اليونسكو. ومما يزيد من إشراقها أنها تحتفل هذا العام بمرور اثني عشر قرناً على ميلادها، وهي لحظة ملائمة لاستحضار صفحات من حضارتها وأصالتها كمدينة للعلم والعرفان بقيت على الدوام متمسكة بهويتها ورمزيتها العلمية والدينية والروحية.

ارتبطت فاس منذ ظهورها إلى الوجود بالمعمار والعمران، ويقال إن سبب تسميتها يعود أصلاً إلى العثور على فأس في إحدى ورش البناء بعد الشروع في تأسيسها. وقد يطول شرح التاريخ العريق للمدينة، لتشعبه وامتداده بعيدا في صلب الماضي، ومن الصعب الإمساك بكل تفاصيله المتوارية خلف غبار الزمن، فقد تعاقبت عليها عدة حضارات، وكانت مسرحاً للعديد من الصراعات.

تقع فاس في أقصى شمال شرقي المملكة المغربية، ولا تذكر هذه المدينة إلا ويذكر معها بانيها إدريس بن عبد الله، مؤسس الدولة الإدريسية عام 172 هـ الموافق لسنة 789م. فهو الذي أنشأها على الضفة اليمنى لنهر فاس في موقع طبيعي يحبل بالخصب والماء، ويتفجر بالينابيع. وبعد رحيله بعشرين سنة، جاء ابنه ادريس الثاني، وأنشأ مدينة ثانية على الضفة اليسرى للوادي. هكذا تقول المصادر التاريخية والمراجع القديمة، فقد كانت المدينة مقسمة إلى شطرين، وحين جاء المرابطون قام يوسف بن تاشفين بتوحيد المدينتين، فانصهرتا معا في مدينة واحدة ظلت رمزاً للتعايش والتساكن والتلاقح بين الثقافات. تطورت المدينة وكبرت، وصار لها مع مرور الأيام والعهود إشعاع حضاري كبير. وفي ذلك الوقت الموغل في القدم، كان جامع القرويين بمثابة منارة علمية وفكرية يستضيء بنورها طلاب العلم القادمون إليها من كل صوب وحدب، من العالم الإسلامي ومن أوروبا. ويعتبر جامع القرويين بطابعه الديني والعلمي من أقدم الجامعات وأعرقها في العالم. وبالقرب من جامع القرويين تتوزع مدارس أخرى قديمة بدورها، وكأنها امتداد له، وكل واحدة من هذه المدارس تعتبر معلماً من المعالم المتسمة بالزخرفة والنقوش العربية والإسلامية، التي تزين واجهتها الخارجية وفناءها الداخلي واقسامها المختلفة، حيث كانت تدرس علوم الدين والقرآن والحديث والفقه واللغة والحساب.

ومن بينها مدرسة الصفارين، ومدرسة الشرادين، ومدرسة العطارين، والمدرسة الصباحية، والمدرسة البوعنانية، وهذه الأخيرة تنسب لمؤسسها السلطان أبو عنان المريني. ومن عجائبها في ذلك الوقت ساعة مائية، تؤكد المصادر التاريخية أن «تقنية تشغيلها مجهولة»!. واعتبارا لطبيعة فاس كمدينة للعلوم والفنون والثقافة كان من الطبيعي أن تكون محجاً لرموز الأدب والإبداع والبحث والفقه، والجامعات التي أنجبت عددا من المفكرين والعلماء المغاربة الذين شكلوا النخبة المغربية، وأثروا الوجدان بروائع أعمالهم الأدبية والفنية، وبعضهم وصل إلى مراكز القرار السياسي. وبفضل جامعتها العريقة وغيرها من دور العلم والمساجد و«الزوايا» والأضرحة الدينية وكبريات المكتبات اكتسبت فاس لقب «العاصمة العلمية» للبلاد. وكما هي مدينة للعادات والتقاليد القديمة المتوارثة عبر الأجيال، فإنها كذلك مدينة الأسوار والأقواس والأبواب المزخرفة التي ظلت صامدة في وجه الزمن، محتفظة بطابعها العربي والإسلامي. ذات مرة غنى الراحل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في عقد السبعينات من القرن الماضي، وكان كثير التردد على الرباط في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، أغنية عن المغرب بعنوان «الماء والخضرة والوجه الحسن». وهذه الصفة بالخصوص تنطبق تماما على فاس، نظراً لما حباها الله من ثروة مائية جوفية، وطبيعة خلابة، وجمال عربي أصيل لسكنتها المتميزة بمزيج من أمازيغ الأطلس المتوسط والقيروانيين والأندلسيين، الذين نزحوا إليها واستقروا فيها، وساهموا في ترسيخ حضارتها. ومما يدل على تسامح المدينة احتضانها لأول حي لليهود في تاريخ المغرب، ويسمى «الملاح».

«النافورات» أو «السقايات»، كما يسميها أهل فاس، متوزعة في الأزقة القديمة، منذ الزمن البعيد. ومن أجمل فضاءاتها الخضراء حديقة «جنان السبيل» التي كانت متنزها فسيحا لسكان المدينة وزوارها. وثمة نافورة قديمة للماء ما زالت واقفة هناك في عناد وكبرياء بجانب مقهى قريب من الحديقة، شاهد على زمن مضى. وتتصف الدور التقليدية القديمة لمدينة فاس أو ما يسمى «الرياضات» باتساعها، وبطابعها المعماري المستمد من روح التراث الإسلامي، حيث تظللها أشجار النخيل، وتزينها تشكيلات الفسيفساء. وبعض هذه «الرياضات» أو المنازل القديمة أدخلت عليها تعديلات، وأصبحت أماكن مفتوحة في وجه الزوار، بعد تحويلها إلى مطاعم تقليدية على الطريقة المغربية أو إقامات سياحية، وهي في الغالب مكونة من طابق أو طابقين لا أكثر، بشرفات ينفذ منها ضوء الشمس، وتسبح في جو من الهدوء التام، لا يكسره سوى رفيف أجنحة العصافير وزقزقة البلابل، وخرير المياه المنساب في النافورات. زيارة فاس هي زيارة إلى التاريخ العربي بكل ألقه الفاتن ومجده الذهبي. والتجول يستدعي السير على الأقدام، خاصة داخل المدينة العتيقة المسيجة بالأسوار، حيث يصعب على وسائل النقل التحرك فيها، وهذا مما يفسر أن الدواب ما زالت هي التي تتولى حمل البضائع إلى الدكاكين والمحلات التجارية.

والنصيحة التي يوجهها الدليل المطبوع الصادر عن المكتب المغربي للسياحة لزوار فاس، هي الدعوة إلى المشي للتمتع أكثر باكتشاف المدينة: «إن أفضل طريقة للتجول بها هي المشي بمهل، ومن دون أية وجهة محددة، وتتبع تيار الحياة ومبتغى الأحاسيس. صوف ناعم، كوب شاي ساخن، عبير التوابل المنبعث من حوانيت العطارين، جمال ألوان، خيوط الصوف المعلقة بأسواق الصباغين. مذاق الكباب والحلوى المحضرة بالعسل، أصوات الناس، ضجيج الأدوات في كل مكان تقريبا. والدخول أيضا في متاهة الأزقة والإدراج والممرات والقباب والدروب». وبالفعل فإن هذه النصيحة جديرة بالتطبيق، في جولة تقود المرء إلى إشباع العين برصيد حي من الصور والألوان المتماوجة في ضوء النهار بين أزقة فاس العتيقة التي تعتبر من أجمل مدن العالم، وأكثرها عراقة وحضارة. ولتكن البداية من باب أبي الجنود، أو بوجلود، كما ينطقه السكان، كمدخل ينحدر نحو العمق الذي ينبض بالحياة والحركة التجارية، وسوف تنتاب الزائر مشاعر الدهشة، وهو يرى ويلمس اتساق وتصميم الأسواق التقليدية وتوزيعها وتنظيمها وفق رؤية هندسية بديعة تفتقت عنها مخيلة الأجداد في الماضي البعيد، فهذا سوق العطارين بتوابله، وهذا سوق الصباغين بأحواضه الملونة حيث تصبغ الجلود، وهذا سوق النجارين برائحة الخشب المنبعثة منه، وبساحته المزدانة بنافورة ذات زخارف رقيقة أجاد الصانع التقليدي وأبدع في سبكها وصياغتها، وليس ذلك بغريب في مدينة تعتبر موطنا للصناعة التقليدية في كل فروعها في الخزف والخياطة والتطريز اليدوي على القماش والنقش على الفضة والنحاس وسبك الذهب. وكل هذه الإبداعات والمنتوجات التقليدية تباع في دكاكين ومحلات تجارية تبدو واجهاتها مثل معارض للوحات تشكيلية زاخرة بأزهى الألوان. التجول في فاس القديمة يشبه إلى حد بعيد استعراض فصل تاريخي معاش يموج بالناس والنشاط، ويحيي في البال ملاحم وذكريات مجد غابر. وتترسخ الصورة أكثر حين الوصول إلى متاحف فاس المفتوحة طيلة أيام الأسبوع، وبعضها يغلق أبوابه يوم الثلاثاء، ومن أشهرها:

«البرج الشمالي»: متحف خاص بالأسلحة والعتاد الحربي القديم.

إن فاس من بين المدن القليلة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويعيش فيها الزائر لحظتين مختلفتين تماما: الماضي بكل أطيافه وأمجاده في المدينة العتيقة، والحاضر بكل ما فيه من حداثة وتطور وارتباط بالعصر الحديث في المدينة الجديدة التي تتوفر على مراكز تجارية كبيرة، وفنادق من الطراز المعماري الرفيع، ومقاه ومطاعم على الشكل الأوروبي، في شوارع فسيحة مثل شارع محمد الخامس وشارع فرنسا، وشارع الحسن الثاني المظلل بأشجار النخيل، الذي خضع أخيرا لسلسلة من عمليات إعادة التأهيل، وتم تزويده بنافورات جديدة مضاءة بالكهرباء ليلا، مما يضفي على الشارع في الليل لمسات من الجمال.

إن فاس مدينة رائعة حقا، ولا يفسد مشهدها سوى بعض مظاهر الإهمال التي لحقت بعض مكونات نسيجها الحضاري والعمراني، خاصة تلك الأعمدة والقوائم الخشبية المزروعة وسط الأحياء القديمة لحماية الدور والبنايات التاريخية والأثرية الآيلة للسقوط من الانهيار، الأمر الذي يتطلب مجهودا اكثر فعالية للإسراع بفتح ورش جديدة من أجل الإصلاح والترميم، للحفاظ على هذا الجزء من ذاكرتها الثقافية والعمرانية والإنسانية من المحو والتلاشي. وللراغبين في أخذ نظرة بانورامية شاملة عن المدينة يمكنهم ركوب حافلة في شكل «قطار صغير» ذي عربات مجرورة، يجوب بهم جميع أنحاء المدينة، خارج السور المحيط بالمدينة العتيقة، وينقلهم إلى كل المدارات السياحية، وغالبا ما يشتغل في عز ازدهار موسم السياحة والعطل والإجازات في فصلي الربيع والصيف. ولا تكلف تذكرة الركوب فيه سوى مبلغ صغير بالدرهم المغربي، يوازي دولارين فقط. والتنقل في فاس لا يطرح أي مشكلة أبدا، والمسافات متقاربة، ووسائل النقل متوفرة، من خلال سيارات للكراء، أو تاكسيات، أو خطوط حافلات، ابتداء من اللحظة التي يضع فيها المسافر قدميه في المطار الذي لا يبعد عن المدينة سوى اثني عشر كيلومترا. ولا تكتمل زيارة فاس دون تذوق طبخها، وهي المدينة التي تشتهر بغنى فائق في هذا المجال، وتتفوق على سائر المدن المغربية بمائدتها المتنوعة التي تضم أشكالا مبهجة ذات نكهة ومذاق أصيلين، فهي، مثلا، موطن صنع وجبة «البسطيلة» سواء منها المحشوة بالدجاج أو الحمام أو تشكيلة السمك ضمن قشرة ناعمة مع التوابل واللوز. وثمة أكلات شعبية شهية يشتهر بها الطبخ الفاسي، مثل وجبة «الخليع» المعدة أصلا من اللحم الجاف، تقدمها المطاعم المنتشرة في المدينة، إضافة إلى حلويات «كعب الغزال» مع كؤوس الشاي بالنعناع على وقع معزوفات الموسيقى الأندلسية التي تشكل خلفية كل الأمكنة، وتتردد أصداء نغماتها في الجلسات والأمسيات، وتثير في النفس مشاعر الحنين والشجن. وعلاقة فاس بالثقافة والفن علاقة متجذرة، وتنشط فيها الحركة الثقافية والفنية على مدار السنة، فلا يكاد يمر شهر دون أن تشهد المدينة، تظاهرة ثقافية أو سهرة فنية أو ملتقى فكريا للإبداع، إضافة إلى مهرجانات سنوية ثابتة في مواعيدها، وتتوزع بين الشعر والموسيقى الأندلسية وطرب الملحون والمسرح الجامعي والتصوف الديني وعروض الأزياء والطبخ.

ولعل أكبر هذه المهرجانات هو المهرجان الدولي للموسيقى الروحية، الذي بات إشعاعه يستقطب الزوار والسياح من مختلف أنحاء العالم، لغنى برنامجه الفني وتنوعه، ويحييه عادة ألمع نجوم الطرب في شهر يونيو (حزيران). ويتميز هذا العام في دورته الرابعة عشرة الحاملة لاسم «أصوات من أجل الخلق» بجمعه بين قطبين كبيرين في عالم الموسيقي العربية: الأول، الموسيقار المغربي عبد الوهاب الدكالي، صاحب الرصيد القوي من الألحان والأغاني ذات النفحة الروحية، ومنها أغنية «يا فاس حيا الله أرضك من ثرى» وأغنية «الله حي» وغيرهما. والثاني، هو فنان العرب محمد عبده، الذي لا تخلو أغانيه من مسحة دينية. وتنفرد فاس أيضا بخاصية أخرى، هي خاصية السياحة الصحية، وتشكل حامة مولاي يعقوب، ومنتجع سيدي حرازم، ابرز عناوينها. وفي الطريق إلى هذين المزارين، تقع العين على مشاهد طبيعية تعتبر آية في الحسن والجمال. تبعد حامة مولاي يعقوب عن فاس بحوالي 22 كيلومترا، وتقع شمال غربي المدينة بين التلال والهضاب. وهي محطة مائية حرارية تبلغ درجة حرارتها الباطنية 45 درجة، ومن خصائص مياهها الممزوجة بالكبريت علاج عدة أمراض مثل الروماتيزم والحنجرة والأنف والحبوب الجلدية وغيرها. وبفضل ذلك اكتسبت هذه الحمامات والمسابح القديمة صيتا دوليا جعلها محجا للوفود من جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى إنشاء وحدة فندقية وصحية عصرية، بنيت وفق طراز معماري أصيل، بتجهيزات دقيقة، وخدمة طبية تضم عدداً من التخصصات في الجهاز التنفسي، والمفاصل، وأمراض النساء، وأمراض الجلد، بما في ذلك أيضا مصحة خاصة بالتجميل تحت إشراف طبي في مرافق وأجنحة توفر للزائرين كل ظروف الاستشفاء والراحة التامة.

أما «سيدي حرازم» فإنه ينبوع ماء معدني ساخن قادم من عمق الأرض هو الآخر. ويعود زمن اكتشافه إلى تاريخ قديم، وقد كان معروفا في عهد ليون الإفريقي، الجغرافي العربي الشهير، الذي عاش في القرن السادس عشر، ويقع شرق فاس على بعد ثلاثين كيلومترا تقريبا. ويصلح ماؤه المعدني لتخفيف آلام الكبد وكذا أمراض الكلى والمسالك البولية. وقد أنشئ بالقرب منه، ومن قبة سيدي حرازم الناصعة البياض، بين الخضرة والطبيعة فندق ومنتجع سياحي يضم عددا من المرافق، بعضها للإيواء، والبعض الآخر للاستحمام الذي يمنح الجسد إحساسا قويا بالانتعاش وبالرغبة في الانطلاق لمعانقة الحياة بأحاسيس متجددة.